بقلم: علي الراضي الخفاجي
الحديث عن تميز مدينة كربلاء من بقية المدن لايختلف عليه اثنان، فهي تحمل إرثاً دينياً وحضارياً وفكرياً جعلها أرضاً خصبة لولادة أبناء متميزين-يشار إليهم بالبنان- بمواقفهم الإنسانية، وفي إبداعاتهم في الفن والفكر والأدب، فعندما نريد أن نتحدث عن سيرة ابنٍ من أبناء هذه المدينة في مجال الإبداع الصوتي المؤثر -الذي لم ينسلخ عن إرثها الوجداني وما تركه من حزن على نبرة حناجر قرائها- فإننا لابد أن نحسن الاختيار؛ خصوصاً إنها مدينة ملحمة سماوية تركت آثارها على الوجدان الإنساني، وامتدت لتكون مدرسة إبداعية يستلهم منها مرهفو الحس، ومن وهبه الله صوتاً شجياً يحكي قصة ملحمتها، ومظلومية أبطالها من خلال أنواع الأداءات، إن كان في التلاوة أو الرثاء أو الإنشاد ونحو ذلك؛ لأنها مدينة تجسدت على أرضها أروع الملاحم الإنسانية وأقدسها، وجاءت قدسيتها من قدسية بطلها الذي حمل إرث الأنبياء والرسل، فمن الطبيعي أن تصنع فنانين يجسدون بإبداعاتهم المواقف والقصص والحكايات، كل بحسب ما أودع الله تعالى فيه من مواهب.
(محسن محمود أحمد الحكيم)ابن هذه المدينة، نشأ في عائلة تميزت في مواقفها الإنسانية، وبساطتها في التعامل مع الآخرين، والده المرحوم(الحاج محمود)ذلك الرجل الأخروي، هو أكبر أشقاء خمسة لهم حضورهم الاجتماعي في مدينة كربلاء.
ما يميز المرحوم محسن أنه يتقبل النقد الأدائي من الآخرين دون تذمر، بل قد يبادر أحياناً ليسألهم عن أدائه، وكأنه جعلهم مرآة لنفسه، فإن قالوا أخذ بقولهم، وإن سكتوا بادرهم، وفي الحالين كان شاكراً لهم، لم يفرض نفسه يوماً في مشاركة أو حضور، ولا أن يحرص ليكون المقدم على من سواه، يلبي دعوة الآخرين بامتنان، كان عصامياً لايرضى أن يكون عائلاً على أحد، كاسباً للرزق الحلال، لم يفكر يوماً أن يجعل من مشاركاته باباً للكسب أو الامتهان، فلطالما كان يقول إنه لايبغي من ذلك إلا نيل رضا الله سبحانه، وشفاعة الأئمة عليهم السلام، وليكتب في ميزان أعماله الأجر والثواب.
ما يميز ابتسامته أنها لم تكن ساذجة، بل كانت صادقة وسخية تحكي ذكاءً في فن العلاقات، يشعرك بقيمة الصداقة ونشوتها، وقد خلت من الكدر والرَّين وما يعكر صفوها، وهي أشبه بصداقة الأطفال وفطريتها، لذا حزن عليه الجميع عندما رحل عن الدنيا؛ لأنه أخذ معه قلوبهم التي طالما شغفت بأريحيته.
(محسن) متعدد المواهب، فقد كان قارئاً بالطريقين العراقية والمصرية، شارك في عدة محافل ومسابقات، وكان ضمن من تشرف بالتلاوة والأذان من خلال المئذنة الشريفة للعتبتين المقدستين الحسينية والعباسية، بالإضافة إلى أنه منشد وناعٍ وقارئ للأدعية والأذكار، شارك في إحياء مجالس الرثاء في بعض بيوتات كربلاء في عقد التسعينات، وفي مجالس الذكر لمناقب الآل صلوات الله عليهم، هكذا نشأ عليها صغيراً، واستمرت معه شاباً فكهلاً فعليلاً، وهو مبتلى بمرض الفشل الكلوي، ولأنها عائلة تكاد تتشابه فيها الأريحيات دون تنافر، قام أخوه(أحمد)بالتبرع له بإحدى كليتيه؛ ليعيش له وسنداً وعضداً، بعد أن صفا له أخاً يكمل معه مسيرة الحياة التي غاب عن ساحتها أخوهم الأكبر(محمد)في مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي على أيدٍ غادرة تلطخت بدمائه البريئة، كما تلطخت بدماء الكثير من الشباب المؤمن في تلك الحقبة المظلمة.
(محسن) يستقبلك بأريحية، ويودعك بدعابة، ويجعلك تنصرف عنه مردداً نظراتك إليه عدة مرات حتى يختفي عنك ليظل قلبك مودعاً عنده، كما تظل مخيلتك تحمل ابتسامته وتتذكر آخر ما كان يتلاطف به معك بنكتة أو ظريفة، لذا جعل الجميع يستذكرونه بحزن، من قراء كربلاء وغيرهم، وممن حضر مجالسه وعاشره، وكأنَّ له دين على كل واحد منهم، فكان تشييعه ومجلس فاتحته وأربعينه مشهداً فريداً ضم مختلف الشرائح الإجتماعية يحكي عن شعبية الفقيد ومحبة الناس له، حتى أقيم له في الصحن الحسيني الشريف محفل قرآني حمل تأبيناً لذكراه، حضر فيه المحبون والمتعلقون، وشارك فيه قراء، كان أحدهم ولده البكر(علي) الذي طالما صحبه في المناسبات ليسير في خطاه، ويتغذى من المعين الإيماني الحسيني الذي تربى عليه أبناء كربلاء، وألقيت في المناسبة كلمات تحدثت عن سيرة حياته، وتبادل فيه الحضور الذكريات الجميلة التي تركت حزناً عميقاً في وجدانهم.