بين الأراضي المتشققة وضفاف الأهوار الجافة، يترك سكان جنوب العراق بيوتهم قسرا بحثا عن حياة أكثر استقرارا، نتيجة تفاقم أزمة الجفاف، واستمرار غياب المعالجات الحكومية الحقيقية، حيث لم تعد المشكلة مجرد نقص في الإطلاقات المائية، بل تهديد شامل للبنيتين البيئية والاجتماعية.
ففي تطور خطير، أكد مدير دائرة الهجرة والمهجرين في ذي قار، بسام الغزي، تسجيل 250 عائلة نازحة جديدة منذ مطلع العام الجاري وحتى الآن، في مؤشر يعكس حجم التأثير المباشر للأزمة البيئية على حياة السكان المحليين.
وقال الغزي، إن “التغيرات المناخية ألقت بظلالها على المناطق الزراعية والأهوار ما تسبب في نزوح عشرات العوائل التي فقدت مصادر عيشها هناك”، مضيفا أن “موجات الجفاف وتراجع المياه دفعت العديد من الأسر إلى ترك مناطقها الأصلية”.
وأشار إلى أن “العوائل النازحة تركزت في أقضية سيد دخيل والإصلاح، فضلا عن مناطق أخرى شرق المحافظة، حيث توجهت إلى مراكز المدن بعد أن هجرت الأهوار والأرياف بحثا عن مصادر بديلة للعيش والخدمات الأساسية”.
وأكد الغزي، أن “فرق الهجرة تتابع أوضاع هذه الأسر وبانتظار الدعم من قبل الوزارة لتجهيزهم من قبيل السلات الغذائية والصحية”، ما يسلط الضوء على حاجة عاجلة لاستجابة حكومية وإنسانية أكبر لمواجهة تبعات التغيرات المناخية.
يشار إلى أن غالبية مناطق الأهوار حاليا شبه خالية من السكان، بينما كانت الحياة فيها قبل سنوات قليلة مزدهرة، سواء في القطاع السياحي، أو صيد الأسماك والطيور، أو تربية المواشي، حيث تحولت خلال السنوات القليلة الماضية إلى أراض قاحلة.
ووصلت المساحة المغمورة للأهوار العراقية قبل الجفاف الأخير قرابة 4500 كم مربع، في حين تراجعت مؤخرا لتصل إلى أقل من 1400 كم مربع، بحسب الإحصائيات الرسمية.
ولم يفلح العراق منذ منتصف القرن الماضي بوضع حلول نهائية لأزمة المياه المتكررة، حتى باتت ورقة ضغط بيد دول المنبع، وتحديدا تركيا، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية عبر التحكم بتدفق المياه إلى البلاد.
وكانت النائبة عن كتلة تيار الفراتين رقية النوري، قد كشفت في 7 آب الماضي، عن نزوح 24,500 عائلة داخل العراق بسبب الجفاف والتغيير المناخي، مشيرة إلى أن الحكومة وضعت 6 معالجات لتقليل موجة النزوح في الجنوب.
ويعد التغيّر المناخي أحد أبرز التحديات التي تواجه العراق، إذ يسهم بشكل كبير في ارتفاع درجات الحرارة وتفاقم الجفاف، نتيجة الانخفاض الحاد في منسوب المياه الواردة إلى نهري دجلة والفرات من تركيا وإيران المجاورتَين، اللتين تعانيان بدورهما من آثار التغيرات المناخية، فيما يفاقم هذا الواقع التحديات البيئية والصحية والإنسانية التي يواجهها العراق، ما ينذر بكوارث وشيكة تمس مختلف مناحي الحياة، لا سيما أن العام الحالي يُصنف الأكثر جفافاً منذ نحو ثمانية عقود، وفقاً لتقديرات خبراء.
وأصبحت تربية الجاموس عبء على عاتق المربين فغياب المراعي الخضراء أدى إلى ارتفاع العلف النباتي من 300 الف دينار للطن الواحد إلى 800 ألف.
ويشتكي العراق منذ سنوات من السياسات المائية غير العادلة التي تنتهجها تركيا، عبر بناء العديد من السدود على نهر دجلة ما تسبب بتراجع حصصه المائية، وأيضا إيران، من خلال تحريف مسار أكثر من 30 نهرا داخل أراضيها للحيلولة دون وصولها إلى الأراضي العراقية، بالإضافة إلى ذلك، فاقمت مشكلة الجفاف وقلة الأمطار خلال السنوات الأربع الأخيرة من أوضاع البلاد البيئية والزراعية.
وكانت السلطات العراقية أعلنت مطلع تموز الماضي، عن موافقة تركيا على رفع إمدادات العراق من المياه بواقع 420 مترا مكعبا في الثانية الواحدة، لمساعدته في تجاوز أزمة شح المياه التي بدأت تؤثر على الحياة في عدد كبير من محافظات البلاد، إلا أن ذلك قوبل بانتقاد واسع لما تضمنه من مقايضة الماء بمشاريع طريق التنمية، فضلا عن كونه لشهرين فقط (تموز وآب).
وذكر عضو لجنة الزراعة النيابية، ثائر الجبوري، في 3 تموز الماضي، أن الإطلاقات الحالية من تركيا لا تمثل سوى 15 بالمئة من الكميات المتفق عليها مع العراق خلال فصل الصيف، مؤكدا أن الأمن المائي في العراق يمر بمرحلة حرجة جدا.
وأجرى العراق وتركيا خلال السنوات الماضية الكثير من المفاوضات بشأن حصة البلاد العادلة من المياه، إلا أن نتائجها غالبا ما تكون مؤقتة أو مرتبطة بظروف سياسية، دون التوصل إلى اتفاقية ملزمة بشأن الحصص المائية، حيث تزداد المشكلة تعقيدا مع غياب سياسة مائية وطنية متكاملة، وتراجع الاستثمارات في تحديث شبكات الري والزراعة، إضافة إلى الهدر الكبير في استخدام المياه.
وتُعد مناطق الجنوب والفرات الأوسط الأكثر تضررا، حيث بدأت تظهر تداعيات الجفاف بشكل واضح من خلال الهجرة القسرية للسكان، وانخفاض الإنتاج الزراعي، وتهديد مصادر مياه الشرب.
وكشفت لجنة الزراعة والمياه النيابية، في 23 حزيران الماضي، عن تراجع الإيرادات المائية في نهري دجلة والفرات إلى مستوى دون 50 بالمئة، فضلا عن انخفاض الخزين المائي في السدود الى النصف ايضا، داعية رئيس الوزراء، محمد السوداني لتفعيل الورقة التجارية للضغط على تركيا.
ووفقا لتقرير صادر عن منظمة البنك الدولي، أنه بحلول العام 2040، سيكون العراق بحاجة إلى 233 مليار دولار، كاستثمارات للاستجابة إلى حاجاته التنموية الأكثر إلحاحا، فيما هو بصدد الشروع في مجال نمو أخضر وشامل، أي ما يساوي نسبة 6 بالمئة من ناتجه الإجمالي المحلي سنويا.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!